الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
.ذكر ملك صلاح الدين مدينتي حمص وحماة: وسار إلى مدينة حماة، وهو في جميع أحواله لا يظهر إلا طاعة الملك الصالح بن نور الدين، وانه إنما خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج، واستعادة ما أخذه سيف الدين صاحب الموصل من البلاد الجزرية، فلما وصل إلى حماة ملك المدينة مستهل جمادى الآخرة، وكان بقلعتها الأمير عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية، فامتنع من التسليم إلى صلاح الدين، فأرسل إليه صلاح الدين ما يعرفه ما هو عليه من طاعة الملك الصالح، وإنما يريد حفظ بلاده عليه، فاستحلفه جورديك على ذلك فحلف له وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة على طاعة الملك الصالح، وفي إطلاق شمس الدين علي وحسن وعثمان أولاد الداية من السجن، فسار جورديك إلى حلب، واستخلف بقلعة حماة أخاه ليحفظها، فلما وصل جورديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك سلم القلعة إلى صلاح الدين فملكها. .ذكر حصر صلاح الدين حلب وعوده عنها وملكه قلعة حمص وبعلبك: وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية، وبذل له أموالاً كثيرة ليقتلوا صلاح الدين، فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره، فلما وصلوا رآهم أمير اسمه خمارتكين، صاحب قلعة أبي قبيس، فعرفهم لأنه جارهم في البلاد،كثير الاجتماع بهم والقتال لهم، فلما رآهم قال لهم: ما الذي أقدمكم وفي أي شيء جئتم؟ فجرحوه جراحات مثخنة، وحمل أحدهم على صلاح الدين ليقتله، فقتل دونه، وقاتل الباقون من الإسماعيلية، فقتلوا جماعة ثم قتلوا. وبقي صلاح الدين محاصراً لحلب إلى سلخ جمادى الآخرة، ورحل عنها مستهل رجب وسبب رحيله أن القمص ريمند الصنجيلي، صاحب طرابلس، كان قد أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وبقي في الحبس إلى هذه السنة، فأطلقه سعد الدين بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير، فلما وصل إلى بلده اجتمع الفرنج عليه يهنئونه بالسلامة، وكان عظيماً فيهم من أعيان شياطينهم، فاتفق أن مري ملك الفرنج، لعنه الله، مات أول هذه السنة، وكان أعظم ملوكهم شجاعة وأجودهم رأياً ومكراً ومكيده، فلما توفي خلف ابناً مجذوماً عاجزاً عن تدبير الملك، فملكه الفرنج صورة لا معنى تحتها، وتولى القمص ريمند تدبير الملك، وإليه الحل والعقد، عن أمره يصدرون، فأرسل إليه من بحلب يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد صلاح الدين ليرحل عنهم، فسار إلى حمص ونازلها سابع رجب، فلما تجهز لقصدها سمع صلاح الدين الخبر فرحل عن حلب، فوصل إلى حماة ثامن رجب، بعد نزول الفرنج على حمص بيوم، ثم رحل إلى الرستن، فلما سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص، ووصل صلاح الدين إليها، فحصر القلعة إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان من السنة، فصار أكثر الشام بيده. ولما ملك حمص سار منها إلى بعلبك، وبها خادم اسمه يمن، وهو وال عليها من أيام نور الدين، فحصرها صلاح الدين، فأرسل يمن يطلب الأمان له ولمن عنده، فأمنهم صلاح الدين، وسلم القلعة رابع شهر رمضان من السنة المذكورة. .ذكر حصر سيف الدين أخاه عماد الدين بسنجار: وكان صلاح الدين قد كاتب عماد الدين وأطمعه في الملك لأنه هو الكبير، فحمله الطمع على الامتناع عن أخيه، فلما رأى سيف الدين امتناعه جهز أخاه عز الدين مسعوداً في عسكر كثير، هو معظم عسكره، وسيره إلى الشام، وجعل المقدم على العسكر مع أخيه عز الدين محمود ويلقب أيضاً زلفندار،وجعله المدبر للأمر، وسار سيف الدين إلى سنجار فحصرها في شهر رمضان وقاتلها، وجد في القتال، وامتنع عماد الدين بها، وأحسن حفظها والذب عنها، فدام الحصار عليها، فبينما هو يحاصرها أتاه الخبر بانهزام عسكره مع أخيه عز الدين مسعود من صلاح الدين، فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده، ورحل إلى الموصل، وثبت قدم صلاح الدين بعد الهزيمة، وخافه الناس، وترددت الرسل بينه وبين سيف الدين غازي في الصلح، فلم يستقر حال. .انهزام سيف الدين من صلاح الدين: في هذه السنة سار عسكر سيف الدين مع أخيه عز الدين وعز الدين زلفندار إلى حلب، واجتمع معهما عساكر حلب، وساروا كلهم إلى صلاح الدين ليحاربوه، فارسل صلاح الدين إلى سيف الدين يبذل تسليم حمص وحماة، وأن يقر بيده مدينة دمشق، وهو فيها نائب الملك الصالح، فلم يجب إلى ذلك، وقال: لا بد من تسليم جميع ما أخذ من بلاد الشام ويعود إلى مصر. وكان صلاح الدين يجمع عساكره ويتجهز للحرب، فلما امتنع سيف الدين من إجابته إلى ما بذل سار في عساكره إلى عز الدين مسعود وزلفندار، فالتقوا تاسع عشر رمضان، بالقرب من مدينة حماة، بموضع يقال له قرون حماة، وكان زلفندار جاهلاً بالحروب والقتال، غير عالم بتدبيرها، مع جبن فيه، إلا أنه قد رزق سعادة وقبولاً من سيف الدين، فلما التقى الجمعان لم يثبت العسكر السيفي، وانهزموا لا يلوي أخ على أخيه، وثبت عز الدين أخو سيف الدين بعد انهزام أصحابه، فلما رأى صلاح الدين ثباته قال: إما أن هذا أشجع الناس، أم أنه لا يعرف الحرب؛ وأمر أصحابه بالحملة عليه، فحملوا فأزاحوه عن موقفه،وتمت الهزيمة عليهم. وتبعهم صلاح الدين وعسكره حتى جازوا معسكرهم، وغنموا منهم غنائم كثيرة، وآلة، وسلاحاً عظيماً ودواب فارهة، وعادوا بعد طول البيكار مستريحين، وعاد المنهزمون إلى حلب، وتبعهم صلاح الدين، فنازلهم بها محاصراً لها ومقاتلاً، وقطع خطبة الملك الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة في بلاده، ودام محاصراً لهم، فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام ولهم ما بأيديهم منها، فأجابهم إلى ذلك، وانتظم الصلح ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال ووصل إلى حماة، ووصلت إليه بها خلع الخليفة مع رسوله. .ذكر ملك صلاح الدين قلعة بعرين: .ذكر ملك البهلوان مدينة تبريز: وكان البهلوان يقاتل أهل مراغة فظفروا بطائفة من عسكره فخلع عليهم صدر الدين قاضي مراغة، وأطلقهم، فحسن ذلك عند البهلوان، وشرع القاضي في الصلح على أن يسلموا تبريز إلى البهلوان، فأجيب إلى ذلك، واستقرت القاعدة عليه، وحلف كل واحد منهما إلى صاحبه، وتسلم البهلوان تبريز وأعطاها أخاه قزل أرسلان، ورحل عن مراغة. .ذكر وفاة شملة: وكان سبب موته أنه قصد بعض التركمان، فعلموا بذلك، فاستعانوا بشمس الدين البهلوان بن إيلدكز، صاحب عراق العجم، فسير إليهم جيشاً، فاقتتلوا فأصاب شملة سهم، ثم أخذ أسيراً وولده وابن أخيه، وتوفي بعد يومين، وهو من التركمان الأقشرية، ولما مات ملك ابنه بعده. .ذكر هرب قطب الدين قايماز من بغداد: فلما كان الخامس من ذي القعدة قصد قطب الدين قايماز أذى ظهير الدين بن العطار، وكان صاحب المخزن، وهو خاص الخليفة، وله به عناية تامة، فلم يراع الخليفة في صاحبه، فارسل إليه يستدعيه ليحضر عنده، فهرب، فاحرق قطب الدين داره، وحال الأمراء على المساعدة والمظاهرة له، وجمعهم، وقصد دار الخليفة لعلمه أن ابن العطار فيها، فلما علم الخليفة ذلك ورأى الغلبة صعد إلى سطح داره وظهر للعامة وأمر خادماً فصاح واستغاث، وقال للعامة: مال قطب الدين لكم ودمه لي؛ فقصد الخلق كلهم دار قطب الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامة، فهرب من داره من باب فتحة فيظهرها، لكثرة الخلق على بابها، وخرج من بغداد ونهبت داره، وأخذ منها من الأموال ما لا يحد ولا يحصى، فرؤي فيها من التنعم ما ليس لأحد مثله، فمن جملة ذلك أن بيت الطهارة الذي كان له فيه سلسلة ذهب من السقف إلى محاذي وجه القاعد على الخلا، وفي أسفلها كرة كبيرة ذهب، مخرمة، محشوة بالمسك والعنبر ليشمها إذا قعد، فتشبث بها إنسان وقطعها وأخذها، ودخل بعض الصعاليك فاخذ عدة أكياس مملوءة دنانير. وكان الأقوياء قد وقفوا على الباب يأخذون ما يخرج به الناس، فلما أخذ ذلك الصعلوك الأكياس قصد المطبخ فاخذ منه قدراً مملوئة طبيخاً، وألقى الأكياس فيها وحملها على رأسه وخرج بها، والناس يضحكون منه، فيقول: أنا أريد شيئاً أطعمه عيالي اليوم؛ فنجا بما معه، فاستغنى بعد ذلك، فظهر المال، ولم يبق من نعمة قطب الدين في ساعة واحدة كثير ولا قليل. ولما خرج من البلد تبه تنامش وجماعة من الأمراء، فنهبت دورهم أيضاً، وأخذت أموالهم واحرق أكثرها، وسار قطب الدين إلى الحلة ومعه الأمراء، فسير الخليفة غليه صدر الدين شيخ الشيوخ، فلم يزل به يخدعه حتى سار عن الحلة إلى الموصل على البر، فلحقه ومن معه عطش شديد فهلك أكثرهم من شدة الحر والعطش، ومات قطب الدين قبل وصوله إلى الموصل فحمل ودفن بظاهر باب العمادي وقبره مشهور هناك. وهذا عاقبة عصيان الخليفة، وكفران الإحسان، والظلم، سوء التدبير، فإنه ظلم أهل العراق، وكفر إحسان الخليفة الذي كان قد غمره، ولو أقام بالحلة وجمع العساكر عاود بغداد لاستولى على الأمور كلها كما كان، فإن عامة بغداد كانوا يريدونه، وكان قوي بالاستيلاء على البلاد فأطاعوه. ولما مات في ذي الحجة وصل علاء الدين تنامش إلى الموصل، فأقام مديدة، ثم أمره الخليفة بالقدوم إلى بغداد، فعاد إليها، وبقي فيها إلى أن مات بغير إقطاع، وكان هذا آخر أمرهم. ولما أقام قطب الدين بالحلة امتنع الحاج من السفر، فتأخروا إلى أن رحل عنها، فدخلوا من الكوفة إلى عرفات في ثمانية عشر يوماً، وهذا ما لم يسمع بمثله، وفات كثير منهم الحج. ولما هرب قطب الدين خلع الخليفة على عضد الدين الوزير وأعيد إلى الوزارة. قال بعض الشعراء في قطب الدين وتنامش هذه الأبيات: وكان قطب الدين كريماً، طلق الوجه، محباً للعدل والإحسان، كثير البذل للمال. والذي كان جرى منه غنما كان يحمله عليه تنامش ولم يكن بإرادته. .ذكر عدة حوادث: .سنة إحدى وسبعين وخمسمائة: .ذكر انهزام سيف الدين من صلاح الدين: وسبب ذلك أنه لما انهزم أخوه عز الدين مسعود من صلاح الدين في العام الماضي وصالح سيف الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار، عاد إلى الموصل، وجمع عساكره، وفرق فيهم الأموال، واستنجد صاحب حصن كيفا، وصاحب ماردين وغيرها، فاجتمعت معه عساكره كثيرة بلغت عدتهم ستة آلاف فارس، فسار إلى نصبين في ربيع الأول من هذه السنة، وأقام بها فأطال المقام حتى انقضى الشتاء وهو مقيم، فضجر العسكر ونفدت نفقاتهم، وصار العود إلى بيوتهم مع الهزيمة أحب إليهم من الظفر لما يتوقعونه، إن ظفروا، من طول المقام بالشام بعد هذه المدة. ثم سار إلى حلب، فنزل إليه سعد الدين كمشتكين الخادم، مدبر دولة الملك الصالح، ومعه عساكر حلب، وكان صلاح الدين في قلة من العساكر لأنه كان صالح الفرنج في المحرم من هذه السنة، على ما نذكره إن شاء الله، وقد سير عساكره إلى مصر، فأرسل يستدعيها، فلو عاجلوه لبلغوا غرضهم منه، لكنهم تريثوا وتأخروا عنه، فجاءته عساكره، فسار من دمشق إلى ناحية حلب، ليلقى سيف الدين، فالتقى العسكران بتل السلطان، وكان سيف الدين قد سبقه، فلما وصل صلاح الدين كان وصوله العصر، وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا، فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس بهم حركة، فأشار جماعة على سيف الدين بقتالهم وهم على هذا الحال، فقال زلفندار: ما بنا هذه الحاجة إلى قتال هذا الخارجي في هذه الساعة، غداً بكرة نأخذهم كلهم؛ فترك القتال إلى الغد. فلما اصبحوا اصطفوا للقتال، فجعل زلفندار، وهو المدبر للعسكر السيفي، أعلامهم في وهدة من الأرض، لا يراها إلا من هو بالقرب منها، فلما لم يرها الناس ظنوا أن السلطان قد هزم، فلم يثبتوا وانهزموا، ولم يلو أخ على أخيه، ولم يقتل بين الفريقين على كثرتهم غير رجل واحد، ووصل سيف الدين إلى حلب، وترك بها أخاه عز الدين مسعوداً في جمع من العسكر، ولم يقم هو، وعبر الفرات، وسار إلى الموصل، وهو لا يصدق أنه ينجو. وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل، فاستشار وزيره جلال الدين، ومجاهد الدين قايماز، في مفارقة الموصل، والاعتصام بقلعة عقر الحميدية، فقال له مجاهد الدين: أرأيت إن ملكت الموصل عليك، أتقدر أن تمنع ببعض أبراج الفصيل؟ فقال: لا. فقال: برج في الفصيل خير من القعر؛ وما زال الملوك ينهزمون ويعاودون الحرب، واتفق هو والوزير على شد أزره، وتقوية قلبه، فثبت ثم أعرض عن زلفندار وعزله واستعمل مكانه على إمارة الجيوش مجاهد الدين قايماز، على ما نذكره إن شاء الله. وقد ذكر العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية أن سيف الدين كان عسكره في هذه الوقعة عشرين ألف فارس، ولم يكن كذلكن غنما كان على التحقيق يزيد على ستة آلاف فارس اقل من خمسمائة، فإنني وقفت على جريدة العرض، وترتيب العسكر للمصاف ميمنة وميسرة وقلباًن وجاليشة، وغير ذلك، وكان المتولي لذلك والكاتب له أخي مجد الدين أبا السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم، رحمه الله، وإنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفاً، والحق أحق أن يتبع، ثم ياليت شعري كم هي الموصل وأعمالها إلى الفرات حتى يكون لها وفيها عشرون ألف فارس؟ .ذكر ملك صلاح الدين بعد الكسرة من بلاد الصالح نور الدين: ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز، فنازلها ثالث ذي القعدة من السنة، وهي من أحصن القلاع وأمنعها، فنازلها وحصرها، وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المجانيق، وقتل عليها كثير من العسكر؛ فبينما صلاح الدين يوماً في خيمة لبعض أمراءه يقال له جاولي، وهو مقدم الطائفة الأسدية، إذ وثب عليه باطني فضربه بسكين في رأسه فجرحه، فلولا أن المغفر الزند كانت تحت القلنسوة لقتله، فأمسك صلاح الدين يد الباطني بيده، إلا أنه لا يقدر على منعه من الضرب بالكلية، إنما يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقي الباطني يضربه في رقبته بالسكين، وكان عليه كزاغند فكانت الضربات تقع في زيق الكزاغند فتقطعه، والزرد يمنعها من الوصول إلى رقبته لبعد أجله فجاء أمير من أمراءه اسمه يازكش، فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطني، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطني، وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضاً، وثلث فقتل، وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته، ثم اعتبر جنده، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه أقره على خدمته، ولازم حصار إعزاز ثمانية وثلاثين يوماً، كل يوم اشد قتالاً مما قبله، وكثرت النقوب فيهان فأذعن من بها، وسلموا القلعة إليه، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة. .ذكر حصر صلاح الدين مدينة حلب والصلح عليها: وانقضت سنة إحدى وسبعين ودخلت سنة اثنتين وسبعين، وهو محاصر لها، ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح في العشرين من المحرم، فوقعت الإجابة إليه من الجانبين، لأن أهل حلب خافوا من طول الحصار، فإنهم ربما ضعفوا، وصلاح الدين رأى أنه لا يقدر على الدنو من البلد، ولا على قتال من به، فأجاب أيضاً، وتقررت القاعدة في الصلح للجميع، للملك الصالح، ولسيف الدين صاحب الموصل، ولصاحب الحصن، ولصاحب ماردين، وتحالفوا واستقرت القاعدة أن يكونوا كلهم عوناً على الناكث الغادر. فلما انفصل الأمر وتم الصلح رحل صلاح الدين عن حلب، بعد أن أعاد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح، فإنه اخرج إلى صلاح الدين أختاً له طفلة، فأكرمها صلاح الدين وحمل لها شيئاً كثيراً، وقال لها: ما تريدين؟ قالت: أريد قلعة إعزاز؛ وكانوا قد علموها ذلك، فسلمها إليهم، ورحل إلى بلد الإسماعيلية. .ذكر الفتنة بمكة وعزل أميرها وإقامة غيره: وسبب ذلك أنه كان قد بنى قلعة على جبل أبي قبيس، فلما سار الحاج من عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة، وإنما اجتازوا بها، فلم يرموا الجمار، إنما بعضهم رمى بعضها وهو سائر، ونزلوا الأبطح فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربوهم، وقتل من الفريقين جماعة، وصاح الناس: الغزاة إلى مكة، فهجموا عليها، فهرب أمير مكة مكثر، فصعد القلعة التي بناها على جبل أبي قبيس فحصروه بها، ففارقها وسار عن مكة، وولي أخوه داود الإمارة، ونهب كثير من الحاج مكة وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها الشيء الكثير، وأحرقوا دوراً كثيرة. ومن أعجب ما جرى فيها أن إنساناً زراقاً ضرب داراً بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام، فأحرقت ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب فيها مكاناً آخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها، فاحترق هو بها، فبقي ثلاثة أيام يعذب بالحريق ثم مات. .ذكر عدة حوادث: وفيها ولي الخليفة المستضيء بأمر الله حجابة الباب أبا طالب نصر بن علي الناقد، وكان يلقب في صغره قنبراً، فصاروا يصيحون به ذلك إذا خرج، فأمر الخليفة أن يركب معه جماعة من الأتراك ويمنعوا الناس من ذلك، فامتنعوا، فلما كان العيد خلع عليه ليركب في الموكب، فاشترى جماعة من أهل بغداد من القنابر شيئاً كثيراً، وعزموا على إرسالها في الموكب إذا رأوا ابن الناقد، فأنهي ذلك إلى الخليفة، وقيل له يصير الموكب ضحكة، فعزله وولى ابن المعوج. وفيها، في ذي الحجة، يوم العيد، وقعت فتنة ببغداد، بين العامة وبعض الأتراك بسبب أخذ جمال النحر، فقتل بينهم جماعة ونهب شيء كثير من الأموال، ففرق الخليفة أموالاً جليلة فيمن نهب ماله. وفيها زلزلت بلاد العجم من حد العراق إلى ما وراء الري، وهلك فيها خلق كثير، وتهدمت دور كثيرة، وأكثر ذلك كان بالري وقزوين. وفيها، في ربيع الآخر، استوزر سيف الدين غازي جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدين محمد بن علي، وكان ابوه جمال الدين وزير البيت الأتابكي، وقد تقدمت أخباره، وهو المشهود بالجود والأفضال، ولما ولي جلال الدين الوزارة ظهرت منه كفاية عظيمة، ومعرفة تامة بقوانين الوزارة، وله مكاتبات وعهود حسنة مدونة مشهورة، وكان جواداً فاضلاً خيراً، عمره، لما ولي الوزارة خمس وعشرون سنة. وفيها، في ذي الحجة، استناب سيف الدين أيضاً عنه بقلعة الموصل مجاهد الدين قايماز، وفوض إليه الأمور، وكان قبل ذلك قد فوض إليه الأمر بمدينة إربل وأعمالها، وكان، رحمه الله، من صالحي الأمراء وأرباب المعروف، بنى كثيراً من الجوامع والخانات في الطرق، والقناطر على الأنهار والربط وغير ذلك من أبواب البر، وكان دائم الصدقة، كثير الإحسان، عادل السيرة، رحمه الله. وفيها قبض الخليفة علي عماد الدين صندل المقتفوي، أستاذ الدار، ورتب مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن هبه الله بن الصاحب. وفيها، في رمضان، قدم شمس الدولة توارنشاه بن أيوب الذي ملك اليمن إلى دمشق لما سمع أن أخاه صلاح الدين قد ملكها، وقد حن إلى الوطن والأتراب، ففارق اليمن وسار إلى الشام، وأرسل من الطريق إلى أخيه يعلمه بوصوله، وكتب في الكتاب شعراً من قول ابن المنجم المصري: وفي هذه السنة، في المحرم، برز صلاح الدين من دمشق، وقد عظم شأنه بما ملكه من بلاد الشام، وبكسره عسكر الموصل، فخافه الفرنج وغيرهم، وعزم على دخول بلدهم، ونبه والإغارة عليه، فأرسلوا إليه يطلبون الهدنة معه، فأجابهم إليها وصالحهم، فأمر العساكر المصرية بالعود إلى مصر، والاستراحة إلى أن يعود طلبهم، وشرط عليهم أنه متى أرسل يستدعيهم لا يتأخرون، فساروا إليها وأقاموا بها إلى أن استدعاهم للحرب مع سيف الدين على ما نذكره. وفيها مات أبو الحسن علي بن عساكر البطائحي المقرئ، وكان قد سمع الحديث الكثير ورواه، وكان نحوياً جيداً. وفي ذي الحجة، منها، توفي أبو سعد محمد بن سعيد بن محمد بن الرزاز، سمع الحديث ورواه، وله شعر جيد، فمن ذلك أنه كتب إليه بعض أصدقائه مكاتبة وضمنها شعراً، فأجابه: وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وهو الصحيح. ثم دخلت:
|